فصل: التحقيق أن وقت المغرب يمتد ما لم يغب الشفق‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


وقال ابن كثير‏:‏ يحتمل أن الآية نزلت قبل فرض الصلوات الخمس، وكان الواجب قبلها صلاتان‏:‏ صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها، وقيام الليل، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس، وعلى هذا فالمراد بطرفي النهار بالصلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، والمراد بزلف من الليل قيام الليل‏.‏ قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ الظاهر أن هذا الاحتمال الذي ذكره الحافظ ابن كثير ـ رحمه اللَّه ـ بعيد؛ لأن الآية نزلت في أبي اليسر في المدينة بعد فرض الصلوات بزمن فهي على التحقيق مشيرة لأوقات الصلاة، وهي آية مدنية في سورة مكية وهذه تفاصيل أوقات الصلاة بأدلّتها المبيّنة لها من السنة، ولا يخفى أن لكل وقت منها أولاً وآخرًا، أما أول وقت الظهر فهو زوال الشمس عن كبد السماء بالكتاب والسنّة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا‏}‏، فاللام للتوقيت ودلوك الشمس زوالها عن كبد السماء على التحقيق‏.‏

وأما السنة فمنها حديث أبي برزة الأسلمي عند الشيخين كان‏:‏ النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث، ومعنى تدحض‏:‏ تزول عن كبد السماء‏.‏

وفي رواية لمسلم‏:‏ حين تزول، وفي ‏"‏الصحيحين‏"‏ عن جابر رضي اللَّه عنه‏:‏ كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّى الظهر بالهاجرة، وفي ‏"‏الصحيحين‏"‏ من حديث أنس رضي اللَّه عنه أنه خرج حين زاغت الشمس فصلّى الظهر، وفي حديث ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ أمّني جبريل عند باب البيت مرّتين فصلّى بي الظهر حين زالت الشمس ‏"‏ الحديث، أخرجه الإمامان الشافعي وأحمد، وأبو داود وابن خزيمة والدارقطني والحاكم في ‏"‏ المستدرك ‏"‏، وقال‏:‏ هو حديث صحيح‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حديث حسن، فإن قيل في إسناده عبد الرحمان بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة، وعبد الرحمان بن أبي الزناد، وحكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف وكلهم مختلف فيهم، فالجواب‏:‏ أنهم توبعوا فيه فقد أخرجه عبد الرزّاق عن العمري عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه عن ابن عباس نحوه‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ هي متابعة حسنة، وصححه ابن العربي، وابن عبد البرّ، مع أن بعض رواياته ليس في إسنادها عبد الرحمان بن أبي الزناد بل سفيان، عن عبد الرحمان بن الحارث المذكور، عن حكيم بن حكيم المذكور، فتسلم هذه الرواية من التضعيف بعبد الرحمان بن أبي الزناد، ومن هذه الطريق أخرجه ابن عبد البر، وقال‏:‏ إن الكلام في إسناده لا وجه له، وكذلك أخرجه من هذا الوجه أبو داود، وابن خزيمة، والبيهقي، وعن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ جاءه جبريل، عليه السلام، فقال له‏:‏ ‏"‏ قم فصله ‏"‏، فصلّى الظهر حين زالت الشمس ‏"‏ الحديث، أخرجه

الإمام أحمد، والنسائي، والترمذي، وابن حبان، والحاكم‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ قال محمد‏:‏ يعني البخاري، حديث جابر، أصحّ شىء في المواقيت‏.‏

قال عبد الحقّ‏:‏ يعني في إمامة جبريل، وهو ظاهر، وعن بريدة رضي اللَّه عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ سأله رجل عن وقت الصلاة، فقال‏:‏ ‏"‏ صلّ معنا هذين اليومين ‏"‏، فلمّا زالت الشمس أمر بلالاً رضي اللَّه عنه فأذّن ثم أمره فأقام الظهر ‏"‏‏.‏ الحديث أخرجه مسلم في ‏"‏ صحيحه ‏"‏، وعن أبي موسى الأشعري ـ رضي اللَّه عنه ـ ‏"‏ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة، إلى أن قال‏:‏ ثم أمره، فأقام بالظهر حين زالت الشمس، والقائل يقول‏:‏ قد انتصف النهار، وهو كان أعلم منهم ‏"‏ الحديث، رواه مسلم أيضًا، والأحاديث في الباب كثيرة جدًا‏.‏

وأما الإجماع، فقد أجمع جميع المسلمين على أن أول وقت صلاة الظهر هو زوال الشمس عن كبد السماء، كما هو ضروري من دين الإسلام‏.‏

وأما آخر وقت صلاة الظهر، فالظاهر من أدلة السنة فية، أنه عندما يصير ظلّ كلّ شىء مثله من غير اعتبار ظلّ الزوال، فإن في الأحاديث المشار إليها آنفًا، أنه في اليوم الأول صلّى العصر عندما صار ظلّ كل شىء مثله في إمامة جبريل، وذلك عند انتهاء وقت الظهر، وأصرح شىء في ذلك ما أخرجه مسلم في‏"‏ صحيحه‏"‏ عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما قال‏:‏ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ وقت صلاة الظهر ما لم يحضر العصر ‏"‏، وهذا الحديث الصحيح يدل على أنه إذا جاء وقت العصر، فقد ذهب وقت الظهر، والرواية المشهور عن مالك رحمه اللَّه تعالى أن هذا الذي ذكرنا تحديده بالأدلّة، هو وقت الظهر الاختياري، وأن وقتها الضروري يمتدّ بالاشتراك مع العصر إلى غروب الشمس‏.‏

وروي نحوه عن عطاء، وطاوس، والظاهر أن حجّة أهل هذا القول الأدلّة الدالّة على اشتراك الظهر والعصر في الوقت، فمن حديث ابن عباس المشار إليه سابقًا ‏"‏ فصلّى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلّى فيه العصر في الأول ‏"‏، وعن ابن عباس أيضًا قال‏:‏ ‏"‏ جمع النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة من غير خوف، ولا سفر ‏"‏ متفق عليه، وفي رواية لمسلم‏:‏ ‏"‏ من غير خوف، ولا مطر ‏"‏ فاستدلوا بهذا على الاشتراك، وقالوا أيضًا‏:‏ الصلوات زيد فيها على بيان جبريل في اليوم الثاني، فينبغي أن يزاد في وقت الظهر‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ الظاهر سقوط هذا الاستدلال، أما الاستدلال على الاشتراك بحديث ابن عباس ‏"‏ فصلّى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلّى فيه العصر، في اليوم الأول ‏"‏ فيجاب عنه بما أجاب به الشافعي رحمه اللَّه وهو أن معنى صلاته للظهر في اليوم الثاني فراغه منها، كما هو ظاهر اللفظ، ومعنى صلاته للعصر في ذلك الوقت، في اليوم الأول ابتداء الصلاة، فيكون قد فرغ من صلاة الظهر في اليوم الثاني عند كون ظل الشخص مثله، وابتدأ صلاة العصر في اليوم الأول عند كون ظل الشخص مثله أيضًا، فلا يلزم الاشتراك، ولا إشكال في ذلك؛ لأن آخر وقت الظهر، هو أول وقت العصر، ويدل لصحة هذا الذي قاله الشافعي، ما رواه مسلم في ‏"‏صحيحه‏"‏ من حديث أبي موسى رضي اللَّه عنه ‏"‏وصلّى الظهر قريبًا من وقت العصر بالأمس‏"‏، فهو دليل صحيح واضح في أنه ابتدأ صلاة الظهر في اليوم الثاني قريبًا من وقت كون ظل الشخص مثله، وأتمها عند كون ظله مثله كما هو ظاهر، ونظير هذا التأويل الذي ذهب إليه الشافعي، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ‏}‏ ‏(‏ 56/2 ‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ‏}‏ ‏(‏2/ 232‏)‏، فالمراد بالبلوغ الأول مقاربته، وبالثاني حقيقة انقضاء الأجل‏.‏

وأما الاستدلال على الاشتراك بحديث ابن عباس، المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم ‏"‏جمع بالمدينة من غير خوف، ولا سفر‏"‏، فيجاب عنه بأنه يتعيّن حمله على الجمع الصوري جمعًا بين الأدلة، وهو أنه صلّى الظهر في آخر وقتها حين لم يبق من وقتها إلا قدر ما تصلّى فيه، وعند الفراغ منها دخل وقت العصر فصلاها في أوله، ومن صلّى الظهر في آخر وقتها، والعصر في أول وقتها كانت صورة صلاته صورة الجمع، وليس ثم جمع في الحقيقة؛ لأنه أدى كلاًّ من الصلاتين في وقتها المعين لها، كما هو ظاهر، وستأتي له زيادة إيضاح إن شاء اللَّه‏.‏

وأما الاستدلال بأن الصلوات زيد فيها على بيان جبريل، فهو ظاهر السقوط؛ لأن توقيت العبادات توقيفي بلا نزاع، والزيادة في الأوقات المذكورة ثبتت بالنصوص الشرعية‏.‏

وأما صلاة العصر، فقد دلّت نصوص السنة على أن لها وقتًا اختياريًا، ووقتًا ضروريًا، أما وقتها الاختياري فأوله عندما يكون ظل كل شىء مثله من غير اعتبار ظل الزوال، ويدخل وقتها بانتهاء وقت الظهر المتقدم بيانه، ففي حديث ابن عباس المتقدم‏:‏ ‏"‏فصلّى العصر حين صار ظلّ كل شىء مثله‏"‏‏.‏

وفي حديث جابر المتقدم أيضًا‏:‏ ‏"‏فصلّى العصر حين صار ظلّ كل شىء مثله‏"‏، وهذا هو التحقيق في أول وقت العصر، كما صرّحت به الأحاديث المذكورة وغيرها‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ أول وقت العصر إذا صار ظلّ كل شىء مثله، وزاد أدنى زيادة‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ إن كان مراد الشافعي أن الزيادة لتحقيق بيان انتهاء الظل إلى المثل إذ لا يتيقن ذلك إلا بزيادة ما كما قال به بعض الشافعية فهو موافق لما عليه الجمهور لا مخالف له، وإن كان مراده غير ذلك فهو مردود بالنصوص المصرّحة بأن أوّل وقت العصر عندما يكون ظلّ الشىء مثله من غير حاجة إلى زيادة، مع أن الظاهر إمكان تحقيق كون ظلّ الشىء مثله من غير احتياج إلى زيادة ما‏.‏ وشذّ أبو حنيفة رحمه اللَّه من بين عامة العلماء فقال‏:‏ يبقى وقت الظهر حتى يصير الظلّ مثلين، فإذا زاد على ذلك يسيرًا كان أول وقت العصر‏.‏

ونقل النووي في ‏"‏شرح المهذب‏"‏ عن القاضي أبي الطيب أن ابن المنذر قال‏:‏ لم يقل هذا أحد غير أبي حنيفة رحمه اللَّه وحجّته حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوارة فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر فعجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أُوتينا القرءان فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين‏.‏ فقال أهل الكتاب‏:‏ أي ربنا، أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطًا قيراطًا ونحن أكثر عملاً ‏؟‏ قال اللَّه تعالى‏:‏ ‏(‏هل ظلمتكم من أجركم من شىء، قالوا لا قال فهو فضلي أوتيه من أشاء‏)‏ متفق عليه‏.‏ قال‏:‏ فهذا دليل على أن وقت العصر أقصر من وقت الظهر ومن حين يصير ظل الشىء مثله إلى غروب الشمس هو ربع النهار، وليس بأقل من وقت الظهر، بل هو مثله‏.‏

وأجيب عن هذا الاستدلال بأن المقصود من هذا الحديث ضرب المثل لا بيان تحديد أوقات الصلاة، والمقصود من الأحاديث الدالة على انتهاء وقت الظهر عندما يصير ظلّ الشىء مثله هو تحديد أوقات الصلاة، وقد تقرر في الأصول أن أخذ الأحكام من مظانها أولى من أخذها لا من مظانها مع أن الحديث ليس فيه تصريح بأن أحد الزمنين أكثر من الآخر وإنما فيه أن عملهم أكثر، وكثرة العمل لا تستلزم كثرة الزمن لجواز أن يعمل بعض الناس عملاً كثيرًا في زمن قليل، ويدل لهذا أن هذه الأمة وضعت عنها الآصار والأغلال التي كانت عليهم‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ خالف أبو حنيفة في قوله هذا الآثار والناس، وخالفه أصحابه، فإذا تحققت أن الحق كون أول وقت العصر عندما يكون ظلّ كل شىء مثله، من غير اعتبار ظل الزوال‏.‏

فاعلم، أن آخر وقت العصر جاء في بعض الأحاديث تحديده بأن يصير ظل كل شىء مثليه، وجاء في بعضها تحديده بما قبل اصفرار الشمس، وجاء في بعضها امتداده إلى غروب الشمس، ففي حديث جابر وابن عباس المتقدمين في إمامة جبريل في بيانه لآخر وقت العصر في اليوم الثاني، ثم صلّى العصر حين كان ظل كل شىء مثليه، وفي حديث عبد اللَّه بن عمر وعند مسلم وأحمد، ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس، وفي حديث أبي موسى عند أحمد ومسلم وأبي داود والنسائي، ثم أخر العصر فانصرف منها، والقائل يقول‏:‏ احمرّت الشمس، وروى الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربع نحوه من حديث بريدة الأسلمي، وفي حديث عبد اللَّه بن عمر، وعند مسلم ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ويسقط قرنها الأول‏.‏

وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه‏:‏ ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر‏.‏

والظاهر في وجه الجمع بين هذه الروايات في تحديد آخر وقت العصر أن مصير ظل الشىء مثليه، هو وقت تغيير الشمس من البياض والنقاء إلى الصفرة، فيؤول معنى الروايتين إلى شىء واحد، كما قاله بعض المالكية‏.‏

وقال ابن قدامة في ‏"‏المغني‏"‏‏:‏ أجمع العلماء على أن من صلّى العصر والشمس بيضاء نقية، فقد صلاّها في وقتها، وفي هذا دليل على أن مراعاة المثلين عندهم استحباب ولعلهما متقاربان يوجد أحدهما قريبًا من الآخر‏.‏ اهـ‏.‏ منه بلفظه‏.‏ وهذا هو انتهاء وقتها الاختياري‏.‏

وأما الروايات الدالّة على امتداد وقتها إلى الغروب، فهي في حقّ أهل الأعذاء كحائض تطهر، وكافر يسلم، وصبي يبلغ، ومجنون يفيق، ونائم يستيقظ، ومريض يبرأ، ويدلّ لهذا الجمع ما رواه الإمام أحمد ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي من حديث أنس قال‏:‏ سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعًا لا يذكر اللَّه إلا قليلاً‏"‏‏.‏ ففي الحديث دليل على عدم جواز تأخير صلاة العصر إلى الاصفرار فما بعده بلا عذر، وأول وقت صلاة المغرب غروب الشمس، أي‏:‏ غيبوبة قرصها بإجماع المسلمين، وفي حديث جابر وابن عباس في إمامة جبريل‏:‏ ‏"‏فصلّى المغرب حين وجبت الشمس‏"‏، وفي حديث سلمة بن الأكوع رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ‏"‏كان يصلّي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب‏"‏‏.‏ أخرجه الشيخان، والإمام أحمد، وأصحاب السنن الأربع إلا النسائي، والأحاديث بذلك كثيرة، واختلف في آخر وقتها أعني المغرب، فقال بعض العلماء‏:‏ ليس لها إلا وقت واحد وهو قدر ما تصلّى فيه أول وقتها مع مراعاة الإتيان بشروطها، وبه قال الشافعي‏:‏ وهو مشهور مذهب مالك، وحجّة أهل هذا القول أن جبريل صلاّها بالنبيّ صلى الله عليه وسلم في الليلة الثانية في وقت صلاته لها في الأولى، قالوا‏:‏ فلو كان لها وقت آخر لأخرها في الثانية إليه كما فعل في جميع الصلوات غيرها‏.‏

والتحقيق أن وقت المغرب يمتد ما لم يغب الشفق‏

فقد أخرج مسلم في ‏"‏صحيحه‏"‏ من حديث عبد اللَّه بن عمرو المتقدم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق‏"‏ الحديث‏.‏ والمراد بثور الشفق‏:‏ ثورانه وانتشاره ومعظمه، وفي القاموس أنه حمرة الشفق الثائرة فيه، وفي حديث أبي موسى المتقدم عند أحمد ومسلم وحديث بريدة المتقدم عند أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربع ثم أخّر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق، وفي لفظ‏:‏ ‏"‏فصلّى المغرب قبل سقوط الشفق‏"‏، والجواب عن أحاديث إمامة جبريل حيث صلّى المغرب في اليومين في وقت واحد من ثلاثة أوجه‏:‏

الأول‏:‏ أنه اقتصر على بيان وقت الاختيار ولم يستوعب وقت الجواز وهذا جار في كل الصلوات ما سوى الظهر‏.‏

والثاني‏:‏ أنه متقدّم في أول الأمر بمكّة وهذه الأحاديث بامتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق متأخرة في آخر الأمر بالمدينة فوجب اعتمادها‏.‏

والثالث‏:‏ أن هذه الأحاديث أصحّ إسنادًا من حديث بيان جبريل فوجب تقديمها، قاله الشوكاني رحمه اللَّه ولا خلاف بين العلماء في أفضلية تقديم صلاة المغرب عند أول وقتها ومذهب الإمام مالك رحمه اللَّه امتداد الوقت الضروري للمغرب بالاشتراك مع العشاء إلى الفجر‏.‏

وقال البيهقي في ‏"‏السنن الكبرى‏"‏‏:‏ روينا عن ابن عباس وعبد الرحمان بن عوف في المرأة تطهر قبل طلوع الفجر صلّت المغرب والعشاء، والظاهر أن حجة هذا القول بامتداد وقت الضرورة للمغرب إلى طلوع الفجر كما هو مذهب مالك ما ثبت في الصحيح أيضًا من أنه صلى الله عليه وسلم ‏"‏جمع بين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا سفر‏"‏، فقد روى الشيخان في ‏"‏صحيحيهما‏"‏ عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏صلّى بالمدينة سبعًا وثمانيًا الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء‏"‏ ومعناه‏:‏ أنه يصلّي السبع جميعًا في وقت واحد، والثمان كذلك كما بيّنته رواية البخاري في باب ‏"‏وقت المغرب‏"‏ عن ابن عباس قال‏:‏ صلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏سبعًا جميعًا وثمانيًا جميعًا‏"‏‏.‏

وفي لفظ لمسلم وأحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجه‏:‏ ‏"‏جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر‏"‏، قيل لابن عباس‏:‏ ما أراد بذلك ‏؟‏ قال‏:‏ أراد ألا يحرج أمته، وبه تعلم أن قول مالك في ‏(‏الموطأ‏)‏ لعل ذلك لعلة المطر غير صحيح‏.‏

وفي لفظ أكثر الروايات من غير خوف ولا سفر‏.‏ وقد قدّمنا أن هذا الجمع يجب حمله على الجمع الصوري لما تقرر في الأصول من أن الجمع واجب إذا أمكن، وبهذا الحمل تنتظم الأحاديث ولا يكون بينها خلاف، ومما يدلّ على أن الحمل المذكور متعيّن، ما أخرجه النسائي عن ابن عباس بلفظ‏:‏

‏"‏صلّيت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا، أخّر الظهر وعجّل العصر، وأخّر المغرب وعجّل العشاء‏"‏، فهذا ابن عباس راوي حديث الجمع قد صرّح بأن ما رواه من الجمع المذكور هو الجمع الصوري، فرواية النسائي هذه صريحة في محل النزاع مبيّنة للإجمال الواقع في الجمع المذكور‏.‏

وقد تقرر في الأصول أن البيان بما سنده دون سند المبين جائز عند جماهير الأصوليين، وكذلك المحدثون وأشار إليه في ‏"‏مراقي السعود‏"‏ بقوله في مبحث البيان‏:‏ وبين القاصر من حيث السند أو الدلالة على ما يعتمد

ويؤيّده ما رواه الشيخان عن عمر وابن دينار، أنه قال‏:‏ ‏"‏يا أبا الشعثاء، أظنه أخّر الظهر وعجّل العصر، وأخّر المغرب وعجّل العشاء‏.‏ قال‏:‏ وأنا أظنه‏"‏، وأبو الشعثاء هو راوي الحديث عن ابن عباس، والراوي أدرى بما روى من غيره؛ لأنه قد يعلم من سياق الكلام قرائن لا يعلمها الغائب، فإن قيل ثبت في ‏"‏صحيح البخاري‏"‏ وغيره أن أيوب السختياني قال لأبي الشعثاء‏:‏ لعلّ لك الجمع في ليلة مطيرة، فقال أبو الشعثاء‏:‏ عسى‏.‏

فالظاهر في الجواب واللَّه تعالى أعلم، أنا لم ندع جزم أبي الشعثاء بذلك ورواية الشيخين عنه بالظن، والظن لا ينافي احتمال النقيض وذلك النقيض المحتمل هو مراده بعسى، واللَّه تعالى أعلم‏.‏

ومما يؤيّده الجمع المذكور على الجمع الصوري أن ابن مسعود وابن عمر رضي اللَّه عنهم كلاهما ممن روى عنه الجمع المذكور بالمدينة مع أن كُلاً منهما روى عنه ما يدل على أن المراد بالجمع المذكور الجمع الصوري‏.‏

أما ابن مسعود فقد رواه عنه الطبراني، كما ذكره ابن حجر في ‏"‏فتح الباري‏"‏‏.‏

وقال الشوكاني في ‏"‏نيل الأوطار‏"‏‏:‏ رواه الطبراني عن ابن مسعود في الكبير والأوسط كما ذكره الهيثمي في ‏"‏مجمع الزوائد‏"‏ بلفظ‏:‏ ‏"‏جمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، فقيل له في ذلك، فقال‏:‏ صنعت ذلك لئلا تحرج أمتي‏"‏، مع أن ابن مسعود روى عنه مالك في ‏"‏الموطأ‏"‏ والبخاري وأبو داود والنسائي، أنه قال‏:‏ ‏"‏ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلّى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة وصلّى الفجر يومئذ قبل ميقاتها‏"‏، فنفي ابن مسعود للجمع المذكور يدلّ على أن الجمع المروي عنه الجمع الصوري؛ لأن كلاًّ من الصلاتين في وقتها وإلا لكان قوله متناقضًا والجمع واجب متى ما أمكن‏.‏